الضحكة اللى من القلب سببها فرحة حقيقية

الضحكة اللى من القلب سببها فرحة حقيقية
محمد حسين بكر فى كتب كتابه

عُشب تلك الميادين


أخذ يرنو من داخل "المينى باص" إلى المارة.. تبدو ملامحهم جادة تذكر قولة ساخرة لأمه وهو ذاهب ليقضى وقت لا يدرى ماذا يفعل به مع أصحابه على المقهى.. "يعنى رايح الديوان" المرأة التى إلى جواره تحاول جاهدة استعطاف الشاب الجالس على المقعد لا يلتفت إليها ويبحلق فى أساورها الذهبية التى تراقص ذراعها وكأنه يقول لها.. "ماتركبى تاكسى أحسن".. قالها رجل آخر منذ قليل لفتاة تأففت من ملاصقة جسده لظهرها.. مازال هو فى سكرته المترنحة عالق فى وسط "المينى باص" بينما السائق يواصل كبح الفرامل وكأنهم دُمى عالقة بخيوط فى السيارة التى توقفت فجأة فى وسط الميدان ياااه مرات عديدة مرق من الميدان سائراً على قدميه أو فى سيارة "تاكسى" عندما يسمح الرزق بذلك وطوال عمره يقطع الميدان محشوراً فى الحافلات العامة.. درجة الحرارة كانت كافية لسلق بيضة خلال 7 دقائق فقط.. 20 دقيقة والميدان مزدحم وكأن شرطى المرور ينتقم من العابرين ببلاهة شديدة أخذ ينظر إلى العشب الأخضر النابت خلف السور الأزرق.. يبدو أخضر تماماً ذلك العشب كألوان التليفزيون.. يبدو غير حقيقى وسط الجحيم ورائحة العرق إنه يتمايل.. وغير حزين وهو خلف السور الأزرق الباهت الطلاء الذى أقامته بلدية الميدان.. نسمة لا يشعر بها ولا من هم حوله ويتكدسون فوق روحه المخنوقة بالمينى باص قد هزت العشب فتمايل شامتاً من المسجون بإرادته شعر بأن روحه تخرج من عروقه.. العرق يبدو وكأنه خلية نحل تواجه خطراً ما.. لم يجد غير الهروب من المينى باص مرق وسط العربات الأجرة.. لم يلتفت لنعيب أبواق السيارات.. واصل سيره تجاه السور الأزرق جميع من بالسيارات يتطلعون نحوه.. خلع حذاؤه والجورب الذى يبدو وكأنه قد غرق فى دلو من العرق وراس على العشب الأخضر.. يبدو رطباً وجميلاً.. يبدو الميدان من هناك وكإنه.. فردوس..

كانت هناك أيضاً ثمة صنابر تقوم برش العشب بحركة دائرية اقترب منها.. بلل جسده وملابسه.. انصرفت خلية النحل المجنونة من فوق جلده خلع قميصه أخذ يتمايل بدت الأصوات الناعقة من السيارات وكأنها سيمفونية مدهشة.. الأسفلت الأسود المبرقش ببقع بيضاء يبدو وكأنه "صراط الآخرة" أصابته حالة من الانتشاء.. كان هناك عجوز يرتدى نظارة سميكة العدسات يلوح له من نافذة "المينى باص" أخرجت طفلة ذراعها الصغيرة من سيارة والدها.. وهى تضحك ألقى أحد الشباب بالموتوسيكل الخاص به.. بعد أن أوقف موتوره.. وهرول ناحيته ليبلل جسده عياة الصنابير التى تروى العشب.. تحرك شرطى المرور نحوهما وهو يصرخ.. "يا أولاد المجانين" كان يتقدم نحوهما والحرارة تأكله.. والخوذة الثقيلة السوداء التى تحمى رأسه تبدو وكأنها حمول الدنيا كلها فوق رأسه.. هبط الكثير من الناس نحو نافورة الميدان والتى يحيط بها عشب أخضر لم تدوس عليه قدم بشرية من قبل ولا حتى البستانى الذى عينته البلدية لرعايته فعلها.. وداس عليه.. بائعة المناديل الصغيرة.. هرولت لتلقى بنفسها فى النافورة.. الميدان فى حالة من الحنان استمرت من العصر وحتى المغرب.. ذهبت الشمس مبتعدة لينهمر الضوء البرتقالى على الميدان.. كان الميدان سرمدياً.. بينما هو.. يضحك.. مبلل الشباب فى سيارة البلدية.. وهم يصطحبونه إلى المحافظة.. بينما الناس تلهو.. وتلهو فوق العشب الذى لم يدوس عليه أحد من قبل.. وكان يضحك. يضحك لأنه نسى فردتى حذاؤه.. إلى جوار السور الأزرق الذى يفصل فردوس الميدان عن الأسفلت الأسود.